[ "كتب" هي سلسلة جديدة على صفحات "جدلية" نستضيف فيها المؤلفين والمؤلفات في حوار حول أعمالهم الجديدة ونرفق به فصلاً من الكتاب. الحلقة الثانية في السلسة هي حوار مع الباحث العراقي فنر الحداد]
الطائفية في العراق
فنر الحداد
(نيويورك، دار نشر جامعة كولومبيا، ٢٠١١)
- كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟
- قبل الإجابة على هذا السؤال يجب النظر الى تطور الأحداث على مدى ستة عشر سنة، من ١٩٩١ ولغاية ٢٠٠٦ وما جرى خلالها. في الحقيقة كان البحث في بداية الأمر عن ذاكرة أحداث ١٩٩١: كيف لشعب أن يختلف هذا الإختلاف الجذري في الذاكرة بين التمجيد والتخوين؟ كيف لتمرد ضد نظام مستبد يفتقر لقاعدة شعبية (خاصة في آذار ٩١ بعد كوارث حرب الخليج) أن يولد انقساماً اجتماعياً بهذا العمق؟ وماذا كان أثر هذا الانقسام في الذاكرة على العلاقات الاجتماعية في ظل الحصار والتفتت الاجتماعي عامة في تلك الحقبة. عندما بدأت التطرق لهذه الاسئلة وجدت أن جوهر الموضوع هو الانقسام الطائفي والهوية الطائفية. أصبح البحث في ما يسمى "الطائفية"،وهو مصطلح مطاطي يكاد أن يخلو من أي معنى أو دقة علمية، أمراً ملحاً خاصة في عام ٢٠٠٦ والحرب الأهلية الطائفية مشتعلة في العراق.
باختصار، حاولت فهم الهوية الطائفية في العراق، وأهم من ذلك حاولت فهم ديناميكية العلاقات الطائفية، بمعنى آخر التفاعل الاجتماعي بين المكون السني والمكون الشيعي في المجتمع العراقي. اهتمامي ليس بالطائفية السياسية فحسب، وإنما بدور ومكان الهوية الطائفية في العلاقات الاجتماعية. من المشاكل العديدة التي ترافق الحديث عن الطائفية في العراق أن هذا الموضوع لا يزال يعاني من كونه نوعاً من التابو - خاصة في فترة ما قبل السقوط. الأمر الآخر والمنبثق من هذا الإشكال هو أن ندرة النقاش الجاد والمحايد في هذه الأمور خلق نوعاً من الجهل الذي جعل الكثيرين - ومنهم الباحثين - ينظرون إلى موضوع الطائفية من منظور المحصلة الصفرية: ففي غالب الاحيان إما ان نسمع الرأي الاختزالي الذي يكاد ينبثق عن وطنية عراقية أو تضامن مع الشعب العراقي والذي يشتهر بالمصطلح الاستهلاكي (كلنا إخوان) أو (إحنا ما عدنا شيعة وسنة)، خلاف ذلك الرأي نجد البعض الآخر، وخاصة في الغرب، يضخمون من شأن الهوية الطائفية في العراق تاريخياً واجتماعياً وسياسياً, بمعنى آخر يتصورون ويصورون كل ما هو عراقي على أنه طائفي. في ظل هذا الاستقطاب العاطفي في الآراء كان أملي بأن يكون كتابي خطوة نحو نقاش موضوعي بعيد عن التبسيطات المسيسة والعاطفية. موضوع الهوية الطائفية ليس موضوع صراع أزلي كما يروج دعاة التقسيم، و لا موضوع مؤامرات خارجية تمزق شعب متكاتفاً كما يؤمن بعض الوطنيين العراقيين والمتضامنين معهم، خاصة من اليسار.
- ماهي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب ؟
- قبل الاجابة على هذا السؤال يجب أن نحذر من أن أي فكرة أو أطروحة عن أي هوية جامعة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار نقطتين أساسيتين. أولا: ما يقال عن الجماعة الفلانية مثلاً (الشيعة) أو (السنة) لا يمكن فعلاً أن يشمل جميع الشيعة ولا جميع السنة، وعلى المتابع أن يدرك دور المتغيرات العديدة المتعلقة بالهوية الطائفية (مثلا الطبقة، التحصيل الدراسي، درجة الايمان، المكان الجغرافي، من مكان الى آخر، وبين الريف والمدينة، البيئة السياسية, الوضع الاقتصادي. . . الخ). النقطة الثانية: هي أن الهوية (طائفية أم غيرها) ليست ثابتة لا من حيث المحتوى ولا من حيث الأهمية. لا يمكن الحديث بدقة أو عقلانية عن (شيعة) و (سنة) بشكل عابر للزمان والمكان، فأهمية هذه المسميات ومحتواها للفرد المنتمي إليهما في حالة تذبذب مستمر تجاوباً وبشكل يعكس السياق الاجتماعي والفكري في لحظة أو حقبة معينة. مثلاً، لا يمكن أن نمزج مضمون الهوية الشيعية العامة أو الوعي الجمعي السني أو حتى رسوخ الهوية الشيعية/السنية في المجتمع العراقي في ستينيات القرن الماضي مع الفترة الحالية. إن المزج بين الحقبتين يولد إشكالاً يتمثل في يتجاهل دور المحتوى السياسي المتغير في بروز هذه الهوية أو تلك. لذا نجد الكثير من العراقيين يصرون على عدم أهمية الهوية الطائفية في المجتمع العراقي بناء على ذكرياتهم من ستينيات أو سبعينيات القرن الماضي, ويتم هذا الإصرار بشكل مطلق وعابر للزمان والمكان والسياق ما يجعل من المستحيل فهم الهوية الطائفية من غير اللجوء إلى نظريات المؤامرة او صب اللوم على أيد خارجية. كذلك القطب المضاد والذي يصور الشيعة والسنة على أنهم في عداوة أزلية لا تسمح لأي حل غير إعادة رسم حدود العراق و المنطقة برمتها حيث لا يميزون بين فترة وأخرى مفترضين أن الهوية شيء ثابت وراسخ وما جرى بعد الـ٢٠٠٣ من تخندق واقتتال طائفي هو دليل على واقع العلاقات الطائفية الحقيقي الأبدي في العراق أو غيره!
حاولت في كتابي أن احلل المتغيرات المتعلقة بالهوية الطائفية لكي نفهم كيف تتقدم وتتراجع أهمية الهوية الطائفية بين فترة وأخرى. أو، بمعنى آخر، كيف لنا أن نفهم ما يبدو ظاهراً متناقضاً بين التزاوج والتعايش والحرب الاهلية؟ ومن هذه المتغيرات العوامل الاقتصادية والتأثيرات الخارجية ومنافسة الرموز (symbols) ومن خلالها النزاع حول تحديد الهوية الوطنية. وباعتقادي إن أكبر تعقيد في فهم الهوية الطائفية هو في علاقتها مع الهوية الوطنية حيث الرؤية الشائعة تصر على أن الهويتين، الطائفية والوطنية، متناقضتان وأن الهوية الطائفية تتسم بالتخلف والعداء والرجعية، وتدور في فلك مستقل عن الهوية الوطنية. وهذه النظرة تعزز المحصلة الصفرية التي تصر على أننا إما إخوان (وطنيون) او أعداء (طائفيون)! وهذا هو أحد أهم محاور الكتاب والذي يتلخص بعنوانه الفرعي: (رؤى مضادة للوحدة). النزاع الطائفي أو المنافسة الطائفية في العراق لا تجري على حساب الوطنية وإنما باسمها. المنافسة تتمحور حول الوطنية - وبمعنى أدق محتوى الوطنية - أكثر من الدين أو الخلافات الفقهية والفلسفية. ولذلك نجد أن هدف هذه النزاعات ليس تقسيم العراق ولا خلق دول (شيعية) و (سنية) كما يتوقع الكثير - (ومنهم نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن!). الهدف باختصار هو ترقية الرواية والرموز الخاصة بالطائفة إلى مستوى الرواية المركزية الوطنية، وبالتالي التأكيد على رؤية الجماعة - مثلا شيعية العراق وعراقية التشيع! لذلك فان الإشكال ليس في غياب الحس الوطني وإنما في تعدد الرؤى للوطنية الواحدة. في رأيي إن أسلم طريقة للتغلب على هذه النزعات هي من خلال إشاعة وطنية تتسم برمزية عابرة للطائفة. ومن خلال مثل هذه الوطنية يصبح من الممكن حصر رمزية الهوية الطائفية في المساحة الخاصة والمجال الديني. من مستلزمات هذه الفكرة أن تكون الدولة في نظر الشعب أقرب ما يمكن إلى الحياد الطائفي. ولكن للأسف فإن تاريخ العراق الحديث وحتى يومنا هذا يجعل من العراق نقيض الحياد الطائفي. والموضوع حقيقة لا يقتصر على السياسة بل يتعلق بتصورات الناس. مثال على ذلك: في الحقبة الصدامية عانى الشيعة، كما كل اطياف الشعب العراقي، ألوان الاستبداد والاضطهاد، ولكن كم من هذا الاضطهاد الذي عانى منه الشيعة كان مبنياً على الهوية الطائفية؟ هل كان العنصر الأساس في الحرمان والتمييز الهوية الطائفية أم الهوية المناطقية والعشائرية؟ وأيا كان السبب في ذلك فان الشيعة كانوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم ضحية الاضطهاد الطائفي، وبالتالي فهم معرضون للمبالغة في دور هويتهم الطائفية في الصعوبات التي واجهوها. وهذه الظاهرة ليست ذاتية فحسب، بل هي تعبر الذات وتؤثر في مفاهيم الآخر والمراقبين عامة. ولذلك يصبح التمرد في الجنوب (تمرداً شيعياً) ولكن تمرد الدليم بعد حادثة بيت مظلوم يسمى (تمرداً عشائرياً). أما اليوم فقد تبدلت الادوار بالكامل حيث السنة هم من يشعرون الآن بأنهم ضحية الاضطهاد الطائفي، وبناء عليه يرون عنصراً طائفياً في تقصيرات وتعسف الدولة. و في الحالتين - الشيعة بالأمس والسنة اليوم - توجد هناك مبررات عديدة للشعور بالاضطهاد الطائفي، ولكن في الحالتين يأخذ هذا التعليل للاضطهاد والتمييز صبغة شمولية وهذه ظاهرة شائعة بين كثير من الجماعات المهمشة عالمياً. اليوم الوضع في العراق يشجع مثل هذه النظرة نتيجة الدور المحوري للهوية الطائفية في تأسيس العراق الجديد وبالتالي مزج المصلحة السياسية مع الهوية الفرعية وأيضا نتيجة تبني الدولة الصريح للهوية الشيعية التي تعزز شعور السنة بالتهميش.
لتوضيح هذه الامور يركز الكتاب على فترة الحصار و ولادة العراق الجديد حتى نهاية الحرب الأهلية عام ٢٠٠٨. وخاتمة الكتاب تذكر بما أتى ذكره في المقدمة: حيث لا يوجد شيء ثابت في الهوية، و العلاقات الطائفية هي أقرب إلى عملية أو ديناميكية مستمرة ومضطربة تستجيب للتغيرات في المناخ الإجتماعي والإقتصادي والسياسي.
- ماهي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
- ثمة صعوبة في أي بحث يتعلق بالامور الحسية. فكيف لنا أن نقيس الانتماء أو المشاعر أو الهوية؟ لذلك أي حديث عن الهوية يجب أن يبدأ بالتاكيد على مطاطيتها. بخصوص الهوية الطائفية في العراق، وجدت أن الحساسيات والنرجسيات التي غالباً ما ترافق مواضيع الهوية مضاعفة نتيجة التسييس. وبينما هذا شئ طبيعي في العراق و العراقيين نتيجة مآسي السنين التسع الأخيرة والتي تتعلق بالهوية الطائفية، فإني وجدت نفسي أمام هذه التعقيدات ليس فقط في العراق، وإنما خارج العراق ومع غير العراقيين ايضاً. ومازلت إلى حد الآن أواجه اتهامات باني (طائفي) أو منحاز إلى هذه الطائفة أو تلك فقط لأني أبحث في موضوع الهوية الطائفية. مع العراقيين، ومع غيرهم من الذين يمكن وصفهم "الملكي أكثر من الملك" أجد أن الحديث عن انقسام طائفي بحد ذاته وبغض النظر عمّا إذا كان هذا الانقسام إيجابياً أو خبيثاً او متقلباً، يستفز البعض - ومن هناك تأتي الاتهامات بالطائفية أو حتى الاستشراق. برأيي أن هناك حساسية غير عقلانية مقابل أي حديث عن هويات فرعية عراقية وأعتقد بان هذا ناتج عن أمرين: أولاً: إرث النظام السابق الذي حارب التعبير عن الهويات الفرعية وبالتالي حولها إلى نوع من التابو, وثانياً: كردة فعل ضد بعض الأطراف، لا سيما الإدارة الأمريكية، التي ضخمت أهمية الهوية الطائفية وصورت العراقيين على أنهم شيعة وسنة فحسب. ورغم أني أؤكد على حماقة مثل هذا التبسيط لأي مجتمع، أرى في نفس الوقت أنه يتوجب علينا أن لا نرادف هذا التضخيم لمكان الهوية الطائفية في العراق بتبسيط قد يصل أحيانا إلى نفي وجود مسألة طائفية تستحق الدراسة والتحليل. في الحقيقة لا يوجد مجتمع في العالم متجانس كلياً، والبشر خبراء في التقسيم! فاذا تجانسنا مذهبياً، سنتعدد عرقياً، وإذا تجانسنا عرقياً، سنتعدد عشائرياً. . . إلخ. التعددية ليست مشكلة ولا تهديد بحد ذاتها، ماهية التعددية وكيف تنظم في الحياة العامة وما هي الانعكاسات السياسية للتعددية هي التي تحدد طبيعتها.
- كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
- حاولت قدر الامكان أن أدخل قاعدة نظرية للحديث عن الهوية الطائفية. لا أعتقد أنه من الممكن معالجة هذا الموضوع فقط على أساس تاريخ العراق والتجربة الشخصية. لذلك اعتمدت على عدة نظريات من عدة فروع في العلوم الاجتماعية، منها الهوية، سيكولوجيا الجماعات، الوطنية، علوم سياسية وعلم الصراعات الإثنية. حاولت كذلك أن أقارب بين الحالة العراقية ودول أخرى واجهت صعوبات في التعامل مع التعددية فوجدت أن ديناميكيات نزاعات الجماعات من دولة إلى أخرى متشابهة رغم بعض الخصوصيات. بالنسبة إلى حقل دراسة العراق وتاريخه الاجتماعي أتمنى أن يكون الكتاب بداية نقاش موضوعي عن الهوية الطائفية بعيداً عن التخندق والنرجسيات الضيقة. كذلك بالنسبة إلى العلوم السياسية والهوية، آمل بأن أكون قد قدمت نظرة تحليلية وموضوعية للحالة العراقية قد يستفيد منها الباحث المختص بهذه الامور بغض النظر عن تركيزه الجغرافي.
- ماهو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية؟
- إن هذا الكتاب يمثل لي خطوة على طريق ربما يكون طويلاً في دراسة مشاكل الهوية والتعددية بالرغم من تركيزه على الحالة العراقية التي وجدتها تصلح لتكون مثالاً لحالات تعاني منها شعوب أخرى.
- من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
- طبعاً المختصون هم أول جمهور مفترض ولكن أتمنى أن يصل الكتاب إلى جمهور أوسع لا سيما إن موضوع الهوية الطائفية لا يزال يشغل حديث الناس ويثير جدالات حادة واحياناً غير عقلانية. بودي طبعاً أن يصل الكتاب إلى العراقيين ولذلك أتمنى أن يترجم الكتاب إلى العربية في المستقبل.
إذا كان لي أن أوصل نقطة (ربما تكون يتيمة) إلى القارئ فهي أن الهوية الطائفية ليست ثابتة، لا من حيث الأهمية ولا البروز ولا المحتوى ،و بناء على ذلك لا يجوز التعميم ولا يجوز الكلام عن (الشيعة) و (السنة) كأنهم ظاهرة ثابتة عابرة الزمان والمكان.
- ماهي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
- أعمل حالياً على كتابي الثاني والذي سيتطرق إلى موضوع انقسام الذاكرة في العراق، وهو موضوع متعلق بالهوية. والكتاب سيعالج أحداث ١٩٩١ وتغيرات الخطاب الرسمي تجاه تلك الأحداث. وأتوقع أن يكون الكتاب جاهزاً للنشر في ٢٠١٥. قبل ذلك سأستمر بالعمل في حقل الذاكرة والهوية، بالتحديد أتوقع نشر بحث قريباً عن ذاكرة الحرب الأهلية وآخر عن إصلاح المناهج الدراسية.
[فنر الحداد باحث في معهد الشرق الاوسط في جامعة سنغافورة و باحث زائر في جامعة لندن.]
فصل من الكتاب
التعددية الثقافية الطائفية في العراق
ترجمة: رضا الطاهر
تشكل العلاقات الطائفية في العراق ميدان جدل مثير للنزاع والاستقطاب. فمنذ عام 2003 يغالي مؤيدو تقسيم العراق (والمتعصبون في كلا طرفي التقسيم الشيعي ـ السني) في التوترات بين السنة والشيعة العراقيين. وفي الطرف الآخر من الطيف يقلل الوطنيون والمدافعون عن وحدة العراق، داخل وخارج المؤسسة الأكاديمية، من أهمية الهوية الطائفية في العراق، ويصلون، في بعض الحالات، الى حد نكران وجودها قبل عام 2003. وربما نتيجة لذلك أصبح مصطلح الطائفية مصطلحاً مداناً وسلبياً على نحو يتعذر الغاؤه. وعندما يسألون العراقيون عن الطائفية في العراق فانهم غالباً ما ينتفضون وهم يردون بنكران دفاعي. وقد يكون هذا نتيجة سنوات من نكران وجود قضية طائفية في العراق علناً على الأقل. ومايزال التعامل مع الموضوع، باعتباره شيئاً محرماً من الأفضل تجنبه أو كشيء يجري التذمر بشأنه خلف أبواب مغلقة، سمة للنفسية العراقية. وفضلاً عن ذلك فان الأفكار التي يحملها مصطلح الطائفية قد تكون مرتبطة بالنتائج الكارثية للانفتاح المفاجيء وغير المسبوق الذي عومل به الموضوع في أعقاب حرب 2003 وتحديد الهوية الطائفية الصريح والمتحمس لأقسام كبيرة من سكان العراق في الفترة بين عام 2003 وعام 2009. وسيؤدي الى جدل مثمر بصورة أكبر اذا ما تخلينا عن مصطلح النزعة الطائفية لصالح العلاقات الطائفية. انه أكثر دقة، ذلك أنه يرغمنا على تصوير المسألة باعتبارها مسألة علاقات بين جماعات اجتماعية، وبالتالي تطبيق آلية متحركة بدلاً من آلية متصلة ساكنة. وعلاوة على ذلك فانه سيكون منطلقاً جيداً باتجاه تغيير تمس الحاجة اليه في مقاربتنا لموضوع النزعة الطائفية / العلاقات الطائفية في العراق. وفي دراسته للعلاقات بين الجماعات في حيدر آباد عبر سودهير كاكار عن أسفه لاعتماد المؤرخين وأخصائيي العلوم السياسية على "المعطيات التجريبية الموضوعية وليس الذاتية …". ولكن على الرغم من المخاطر المتأصلة فانه في الذاتي والتجريبي، على وجه الدقة، يتعين علينا أن نركز جهودنا، ذلك أن قضية العلاقات الطائفية مرتبطة، في الجوهر وعلى نحو وثيق، بادراكات المرء والآخر وبنية مركبات الأسطورة ـ الرمز المتنافسة التي غالباً ما تفصل عن الواقع التاريخي.
لقد عاش الشيعة والسنة في ما يعرف اليوم بالعراق لفترة زادت على ألف عام. وخلال أغلب تلك الفترة كانت الجماعات قادرة على أن تحيا بتعايش سلمي على الرغم من تفجر العنف بين حين وآخر. والحقيقة أنه يجري الجدل بأن أحداث النزاع الطائفي الخطير لم تحصل الا في أعوام 1508 و1623 و1801، وكانت نتيجة مباشرة لعوامل اقليمية وليس عراقية. غير أننا عندما نقول هذا ربما ينبغي التأكيد على أن التعايش ليس مرادفاً للتسامح. فقد فند المؤرخ الأسباني جوزيف بيريز فكرة التسامح والتعايش الديني في أسبانيا العصور الوسطى: "التسامح يشترط غياب التمييز ضد الأقليات واحترام وجهات نظر الآخرين. وفي ايبيريا القرن الثامن حتى القرن الخامس عشر لم يكن لمثل هذا التسامح وجود". وفضلاً عن ذلك لم يكن التسامح، كما هو معرف أعلاه، متوفر في معظم تاريخ العراق. ومع ذلك يتعين التأكيد على أن هذا لا يستدعي بالضرورة مظهر عنف. بل إن الدلالة تتمثل في أنه، بدون التسامح، يسهل تسييس واستغلال الانقسامات الطائفية كوسائل تعبئة عدوانية هجومية.
وفي العراق عاش الشيعة والسنة، على العموم، في سلام ولكن بدون تفكيك الحدود الطائفية. وعلى سبيل المثال فان الاندماج الاجتماعي والزواج المختلط بين السنة والشيعة، وهو ما يجري غالباً الثناء عليه باعتباره دليلاً على ضعف النزعة الطائفية في العراق، هو ظاهرة في القرنين العشرين والحادي والعشرين. وإذا ما اقتبسنا من تحليل كاكار للعلاقات بين الهندوس والمسلمين مرة أخرى، فقد كان السنة والشيعة في ما قبل القرن العشرين "أكثر من غرباء، ليسوا أعداء في الغالب، ولكنهم أقل من أصدقاء".
وفي الحقيقة فان بعض الأمثلة المستخدمة للتقليل من شأن الاختلافات الطائفية في العراق هي، في الواقع، مؤشر على هوة واسعة تفصل بين الاثنين. وغالباً ما يجري الاستشهاد بـ "التحالف" بين السنة والشيعة في الاعداد لثورة العشرين كدليل على النزعة الوطنية العراقية التي تتجاوز الاختلاف الطائفي. غير أنه بينما يمكن أن يكون هذا صحيحاً بالنسبة لأحداث أيار 1920، فان حقيقة أن الأحداث التي شكلت أساساً لتعليقات من المراقبين البريطانيين والعراقيين مؤشر على كونها شيئاً جديداً غير مألوف. وفي الواقع كانت نزعة وطنية عراقية متجاوزة للهوية المستندة الى الطائفة تولد وتستمر على الوجود في العراق. غير أنه اعتماداً على الظروف يمكن للنزعة الوطنية العراقية أن تتراجع ويجري تخطيها بأشكال أضيق معتمدة على الطائفة من تحديد هوية الجماعة كما كان جلياً في الكثير من عراق مابعد 2003. ويخطئ من يأخذ أحداث 1920 أساسا في تقييم التاريخ الأوسع للعلاقات الطائفية على انها مؤشر للوئام والاندماج بين الطائفتين، كذلك يخطئ من، على سبيل المثال، يأخذ التحذير الذي وجهه قسم من علماء السنة في بغداد الى السلطات العثمانية من تحول العشائر الجنوبية الى الاسلام الشيعي أ لرسم صورة للانقسام اليائس والعداوات الأبدية.
وربما أدت تجربة الدولة القومية العراقية الى مفاقمة مخاطر التوترات الطائفية. ويمكن أن تكون الحجة الأكثر بساطة متمثلة في أنه في عام 1921 أصبح العرب السنة والشيعة أصحاب حق أساسيين في العراق الجديد: وبالتالي فان توزيع الوظائف والموارد يمكن أن يؤثر، بل أثر بالفعل، على نظرات الناس الى أنفسهم والى الآخرين، وأضافت المعرفة السياسية والنضج السياسي حساً بالتأهيل بين الجماعتين، ساعد، في بعض الأحيان، على تعقيد العلاقات الطائفية في ظل غياب توزيع عادل لموارد الدولة. والأمثلة على حالات التفاوت الاقتصادي والسياسي (الفعلية أو المحسوسة) المرتبطة بالاختلاف الطائفي أمثلة وافرة: وعلى سبيل المثال أفاد القنصل العام البريطاني في تقرير له في شباط 1951 من البصرة بأن وجهاء السنة كانوا يتذمرون من أن الشيعة كانوا يعززون هيمنتهم على القطاعات الحيوية للدولة بينما السنة، كما تشكى أحد الوجهاء "منقسمون على نحو يبعث على اليأس ويتعين عليهم أن يراقبوا وثوب محدثي النعمة الشيعة الى المقدمة في جميع مجالات الادارة". وكان لمثل هذه المخاوف أن تبدو، بلا ريب، مضحكة بالنسبة للكثير من الشيعة الذين هم أنفسهم غالباً ما يتذمرون من كونهم محدودي التمثيل في ادارة الدولة. ويمكن رؤية هذا في ميثاق الشعب في آذار 1935: فهذه الوثيقة البالغة الأهمية، المقدمة الى الملك غازي، وقعت من جانب زعماء عشائريين ودينيين من الفرات الأوسط ومحامين شيعة في العاصمة، وطالبت بتمثيل أفضل للشيعة في الحكومة ودعت الى تمثيل التشريعات الشيعية في السلطة القضائية، اضافة الى الاصلاح الانتخابي والزراعي وحرية الصحافة. وعلاوة على ذلك فان "قضية النصولي" في عام 1927 تظهر كيف أنه من السهل اشعال المشاعر الطائفية عندما ينظر الى القصة التاريخية للطائفة باعتبارها تتعرض الى هجوم. وفي هذه الحالة نشر أنيس النصولي، وهو مدرس سوري يعمل في العراق، كتاباً اعتبر من جانب كثير من الشيعة هجوماً على آل بيت النبي.
ويمكن للأحداث التي وصفت أعلاه أن تستخدم لتأكيد الانقسام الطائفي في العراق وأهمية المشاعر الطائفية في تشكيل النفسية العراقية. غير أنه في جميع الأحداث التي ذكرت أعلاه، وأحداث أخرى غيرها لا تحصى، فان الثنائية الشيعية ـ السنية التبسيطية بعيدة عن أن تكون مقنعة. وعلى سبيل المثال فان ميثاق الشعب كان وثيقة مثيرة للخلاف بين شيعة الفرات الأوسط أنفسهم: فقد رفض جزء كبير من زعماء العشائر التوقيع على الوثيقة على أساس أنها تضع المصلحة الطائفية فوق المصلحة الوطنية. وإنهم، في الحقيقة، مضوا في توقيع وثيقة مضادة تدور حول ذلك الموضوع. كما أنه من الجدير بالذكر أن توقيع واحدة من الوثيقتين كان مرتبطاً، الى حد كبير، بعلاقة المرء بالحكومة القائمة وموقفه منها. أما بالنسبة لقضية النصولي فانه بينما استقطبت الرأي في أقسام من السكان العراقيين العرب، فان ايريك ديفيز استخدم هذا الحدث لتوضيح مخاطر اللجوء الى ثنائية شيعية ـ سنية أحادية البعد عبر لفت انتباهنا الى انقسام عام بين الوجهاء الذين عبأوا المواقف ضد النصولي والطلاب الذين أفلحوا في تجاوز الانقسام الطائفي وأعلنوا عن الدفاع عنه بغض النظر عن الطائفة. والشيء الذي يمكن استخلاصه من هذه الحالات هو، أولاً، أن المشاعر الطائفية موجودة، بالفعل، في العراق، ويمكن، في السياق المناسب، إثارتها بطريقة المجابهة. وهذا يتسم بامكانية التحول الى عنف، وهو ما لم يتحقق الا نادراً لحسن الحظ. ومن ناحية ثانية فان نجاح التعبئة الطائفية يعتمد على جملة عوامل منفصلة عن العلاقات الطائفية. وهذا ما وصفه المنظرون، أساساً، بالطبيعة المتعددة المستويات للنزاع الأهلي: تحت "الانقسام الرئيسي"، وفي هذه الحالة التوتر الشيعي ـ السني، هناك مجموعة من العوامل المحلية الثانوية التي تؤثر على علاقات المرء أو الجماعة مع الطرف الآخر. وأخيراً فان الاستخدام السياسي للهوية الطائفية نفذ دائماً في اطار عراقي. فلا التعددية الطائفية للعراق ولا العراق ككيان سياسي جرى تحديه. بل إن تقاسم السلطة والتنافس من أجل الهيمنة داخل العراق هو أصل المشكلة.
ومما يثير الدهشة أن يأتي أحد التوصيفات الدقيقة للعلاقات الطائفية في العراق من السفير البريطاني في العراق عام 1950 السير هنري ماك. فقد تحدث السير هنري بتفصيل عن الطبيعة المتغيرة للعلاقة بين السنة والشيعة، وما رآه كتوترات ناشئة ارتباطاً بتحديات الشيعة لهمينة السنة غير المشكوك فيها حتى ذلك الحين. وقد أثار هذا، بالمقابل، المخاوف بين النخب السنية "من امكانية التفوق عليهم من جانب الأغلبية" مما يسبب "رد فعل بالقوة المتزايدة". وما هو جلي من رسالة السير هنري هو أنه في عام 1950 كان تسييس الهوية الطائفية قد تصاعد. ولا ينبغي أن يفسر هذه باعتباره حقيقة أبدية، ولا يشكل بالضرورة جزءاً من اتجاه متصاعد. بل إنه يجب أن ينظر اليه باعتباره تصويراً للوضع في عام 1950 حتى على الرغم من أن أحداثاً سابقة ربما تكون قد أثرت على الآليات التي جرى وصفها في الرسالة. وعندما تكون الهوية الطائفية وثيقة الصلة سياسياً بالموضوع، أو عندما تتصاعد التوترات الطائفية لأي سبب كان، تبرز المخاوف من الآخر والآراء السلبية المقولبة التي كانت ساكنة منذ زمن بعيد. ومن هنا التكرار، عبر قرون، للاتهامات ذاتها وقضايا الخلاف ذاتها بين الشيعة والسنة. ومن أجل توضيح الأمر يقدم السير هنري مثالاً على المخاوف السنية التي يمكن أن نجدها بسهولة على الانترنت في الوقت الحالي أو في محادثات غير رسمية:
جرى توضيح لاعقلانية موقفهم (السنة) بصورة مناسبة من جانب وكيل وزارة الخارجية (العراقية) عندما أبلغ أحد موظفينا من أن الشيعي لا يمكن الثقة به اطلاقاً لأن دينه يسمح له بالمراوغة مع الحقيقة (وهي اشارة الى ممارسة التقية).
إن بروز مثل هذه المشاعر بعيد عن أن يكون ثابتا أو مستمراً، ولكنها تشكل جزءاً من ذخيرة الأساطير المضادة التي يمكن الاستناد اليها في أوقات التوتر الطائفي المتصاعد. وكمثال على ذالك، فقد جرى ابلاغي، في مقابلة مع دبلوماسي سني عراقي سابق من عهد صدام، بأن "المشكلة" مع الشيعة هي أنهم يجدون من السهل جداً أن يكذبوا بسبب مبدئهم المسمى التقية. غير أن هذا لم يمنع من أجريت معه المقابلة من اقامة صداقات وعقد وزواج مختلط مع عوائل شيعية. فاحدى بناته متزوجة من شيعي. ومن الناحية الجوهرية فان ما قاله الرجل هو أن لدى الشيعة نزوعاً للخداع، ومع ذلك فان هذا لم يمنعه من تزويج ابنته من شيعي. والافتراض الطبيعي الذي يمكن للمرء اتخاذه هو أن مثل هذه المشاعر والآراء المقولبة السلبية هي، في العادة، معلقة وغير ذات صلة بموضوع العلاقات الشيعية ـ السنية ما لم تثرها الأحداث أو الظروف أو المؤسسة الأكاديمية الميالة للبحث والتحقيق. وهذا هو السبب الذي يجعل الرأي العراقي بشأن موضوع العلاقات الطائفية يكشف أحياناً عن ميول شيزوفرينية تقريباً: فالكثير من العراقيين يمكن أن يؤكدوا، على نحو متصلب، عدم ارتباط الهوية الطائفية في العراق بالموضوع، ومع ذلك فانهم يشاركون في أكثر النزاعات هجومية في ما يتعلق بالآخر.
ويتعين تحديد استثناءات بالنسبة للمتطرفين الطائفيين الذين لابد أن يفترض المرء أنهم يشكلون أقلية عددية. فالتاريخ العراقي يبلغنا أنه "في العادة"، وبالنسبة للأغلبية الساحقة من العراقيين العرب، تعتبر أهمية الهوية الطائفية ثانوية مقابل الأشكال الأخرى من تحديد هوية الجماعات، على الأقل النزعة الوطنية العراقية. ومن سوء الحظ فانه عندما تشتد التوترات الطائفية، لأي سبب كان، يمكن للمتطرفين الطائفيين كسب اتباع، وإن كانوا في الغالب أتباعاً مؤقتين. ويقدم السير هنري خلاصة لطبيعة العلاقات الشيعية ـ السنية في العراق ماتزال صحيحة على الرغم من الاستثناءات مثل عام 1991 او عام 2006 " ... يبقى الصراع (بين الطائفتين) مخفياً جزئياً، وهو ما يشعر كلا الطرفين بسببه بالخجل على نحو غامض ويود الطرفان رؤية حل له بدون صدام سياسي سافر".
وقبل الانتقال الى عراق مابعد 2003، لابد من الاشارة الى نقطة أخرى هامة بخصوص العلاقات الطائفية في العراق وهي ذات صلة بالطبقة. وغالبا ما يصاغ خطابنا حول الآليات الشيعية ـ السنية في العراق من جانب عراقيين من فئات اجتماعية ـ اقتصادية وثقافية معينة. وقد جرى تجاهل تأثير الطبقة، بدلالاتها الثقافية وكذلك الاقتصادية، على العلاقات الطائفية، الى حد كبير. وبينما يعتبر صحيحاً وجود أحياء بغدادية قليلة مكونة حصراً من طائفة واحدة، يمكن القول أن المناطق المختلطة الى حد كبير هي المناطق التي تسود فيها الطبقة الوسطى. وليس بعيداً عن المنطق أن نفترض علاقة سلبية بين الحراك الاجتماعي ـ الاقتصادي وتحديد الهوية الطائفية. ومن المألوف أن نسمع نكراناً للنزعة الطائفية من جانب عراقيين في كل مناحي الحياة. غير أنه بعيداً عن هذا الاعلان الدوغماتي عن الوحدة الشاملة، فانه من السليم الافتراض بأن الأواصر التي تربط الشيعة والسنة أقل بكثير في مناطق الطبقة العاملة منها في مناطق الطبقة الوسطى. وبالتالي فان سكان مناطق بغدادية مثل مدينة الصدر أو الشعلة أو الفضل أقل تجانساً بكثير من سكان مناطق ميسورة مثل زيونة أو الجادرية أو اليرموك. وتضم الكرادة، التي غالباً ما توصف باعتبارها شيعية، مناطق عدة بعضها أكثر تجانساً من الأخرى حيث نجد علاقة اجتماعية ـ اقتصادية جلية بين الطبقة والتجانس الطائفي. وهذا ليس خاصاً بالعراق أو القرن العشرين: ففي تعليقه على العنف الطائفي في الولايات العربية للامبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر، يرى بروس ماسترز أن "... نخبة العرب المسلمين المدينية في ذلك الوقت ألقت باللوم على "الغرباء" ـ البدو، الأكراد، الفلاحين، والدروز ـ ذلك أنه لم يكن لرؤيتهم للعالم أن تعترف بأن مواطنيهم المدينيين الأفقر يمكن أن يرتكبوا مثل هذه الانتهاكات مهما كانت اثارة المسيحيين لهم كبيرة". والعجز نفسه عن ادراك العداء والعنف الطائفي جلي لدى كثير من العراقيين اليوم للأسباب نفسها. ففي صيف عام 2006، حيث استمر العنف الشيعي ـ السني في بغداد على التفاقم على نحو منفلت، قال دبلوماسي عراقي سابق (شيعي هذه المرة) بابتسامة تنم عن دراية: "لابد أن يبدأ الأمر في غرفة النوم !" والتنويعات على هذا الموضوع التي تؤكد شيوع الزواج المختلط كمتراس ضد الحرب الأهلية تنويعات مألوفة، ولكنها تضع قيمة أكبر بكثير لممارسة مقيدة الى حد كبير بالطبقة والجغرافيا. وفي كل الأحوال فقد فشل الزواج المختلط في سياقات أخرى كما هو الحال في البلقان.
وهناك لازمة أخرى شائعة تتمثل في أن العراقيين كانوا، في الماضي، لا يعرفون من هو شيعي ومن هو سني، وفي بعض الحالات لا تفهم مصطلحات الشيعي والسني الا على نحو هزيل. وربما كان هناك شيء من الحقيقة في ذكريات عراق ماقبل 1990. ومع ذلك فان إحدى الموضوعات الرئيسية لهذا البحث تتمثل في أن بروز الهوية الطائفية يتغير اعتمادا على الظروف. غير أن مثل هذه الذكريات لا تعكس تجاوزاً للاختلاف الطائفي بقدر ما تعكس قلة الارتباط بموضوع الهوية الطائفية في فترة معينة من تاريخ العراق. إن تجاهل طائفة الآخر ليس رمزا للانسجام الطائفي، وانما يلقي ضوءاً على حقيقة أن القضية عوملت كشيء محرم من الأفضل تجنبه. وفي دراسته العميقة للهوية العراقية جادل سليم مطر بأن الحاح الدولة العراقية والشعب العراقي على المبالغة في تأكيد هوية العراق الموحد على حساب فهم الاختلافات الطائفية كان له تأثير ضار على التلاحم الاجتماعي. وكان الفهم الذي عوملت به المسائل الطائفية يعني أن القضايا الطائفية كانت تطرح في اطار طائفة وليس في اطار حوار شامل، ومن باب المفارقة أن هذا أدى الى تقوية نزعة الجماعات بدلا من تعزيز الوحدة. وهكذا فان المعرفة المحدودة التي كانت لدى العراقيين لفهم بعضهم بعضاً جرى الحصول عليها الى حد كبير عبر الحكمة الموروثة وليس عبر البحث المعرفي. ونتيجة لذلك فان الشكوك بين الجماعات موروثة من جيل الى جيل مع قليل من الفعل المضاد لتأثيرها في صياغة آراء الآخر. وفضلاً عن ذلك أود أن أضيف بأن وعي المرء بطائفته وطائفة الآخر والأهمية المعلقة على الاختلافات بينهما مرتبطة، على نحو وثيق، بالقدرة على استيعاب الظلم الاجتماعي. في عراق ماقبل 2003 كان الشيعة أكثر احتمالاً في الحديث عن قضية طائفية بالمقارنة مع مواطنيهم السنة، لأن كثيراً منهم كانوا يعتقدون بأن هناك آصرة مباشرة بين هويتهم الطائفية واضطهاد الدولة (الفعلي أو المحسوس). فالسنة لم يصوروا النزعة السنية / الهوية السنية كبؤرة هجوم من جانب الدولة أو أي شخص آخرـ وفي ذلك السياق، وفي انعكاس لما كان جار في ذالك الزمان، جرى تصور ايران باعتبارها تهديدا للنزعة القومية العربية أكثر منها تهديداً للاسلام السني. وشعر الشيعة، في الجانب الاخر، بأن حريتهم في التعبير عن هويتهم الشيعية كانت تواجه قمع الدولة، وأنه كان يجري التمييز ضدهم لصالح العراقيين السنة. ومن هنا فان العراقيين الشيعة أكثر احتمالاً بكثير في التعبير عن "قضية طائفية" في عراق ماقبل 2003. ولا حاجة بنا الى القول إن الأدوار انقلبت منذ عام 2003، حيث بات الشيعة أكثر احتمالاً لنسيان ونكران التمييز الطائفي الذي ترعاه الدولة. واذا ما أخذنا بالحسبان أن الهوية الطائفية جرت تغذيتها عبر الاضطهاد والتمييز المحسوس بين الشيعة لفترة أطول بكثير مما بين السنة، فان هذا المنطق يفرض أن الهوية الطائفية الشيعية ربما مصاغة على نحو أكثر تماسكاً وتتسم بهيكل أغنى من الرموز والأساطير ـ وبكلمات أخرى فان الهوية الشيعية العراقية تتسم بمركب أسطورة ـ رمز أكثر قوة بكثير من نظيرتها السنية.